صافِرةُ سفينة تعيدُني إلى الوعيْ ، أجدُني لم أتحرَّك شبراً و لا أزال على ارتجافي متشبِّثة بطوق النّجاة ، لا أرى أثراً للصّفيحةِ المعدنيّة ، كانت سراباً إذاً ! أحاول أن أمُدَّ وأرفع رأسي لألمحَ هيكل السّفينة و أرْثي لمهزلتي ، لأنَّه لو كانت السّفينة قريبة لكنتُ حتماً رأيتُها ، انتبه أنَّ وسواس القرِش و قدميْ بين رحمةِ فكيّه لم يراودني كلّ هذا الوقت و تناسيتُه تحت وطُأة ما هو أدهى و أمرّ ، فهناك وعلى بُعْد أمتار يكمُن الحلّ لمأساتي و النهاية السعيدة و المعجزة ! لكن كيف ؟ ! أينتقمُ منِّي الربّ ؟ هل ارتكبتُ ذنباً ما عظيماً يستحقُّ مثل هذا العقاب ؟! فأنا لستُ فقط منسيّة ومنفيّة في عَرْض البحر ، لكنِّني مُهدَّدة بمرور باخرة قد تنتشلني من قبري و لا سبيلَ لي إليها !
أحاول أن أتناسى حقيقة حظيًّ العاثر و قدري المشؤوم و أبذُلُ ما بوُسْعي علًّ النهايات تتبدّل وتُكتّب لي حياة أخرى ، يزولُ ألمي و ارتجافي و ينقشع البرد مع فوْرتي واندفاعي ، ألوِّح بيدٍ و أصرخُ بصوتٍ حادّ جهوريّ ، لكن لا شئ ، تدورُ الأرض حول نفسها و يسير البحر في مجراه و تمضي السفينة في طريقها غيرعابئة بي ، و تصدُر منها صافرة أخرى مودِّعة أو بالأحرى غادرة متخليَّة . ضوءٌ باهتٌ خافِت يشُقّ صفحة السّماء و إظلام ليلِها مُعلناً ساعات الفجر الأولى ، ستشرقُ الشّمس بعد ساعاتٍ و تراني و تشهْد على قصَّتي . مُرهقةُ أنا من الانتظار ، انتظارِ النجاة أو الموت أو الإغماء الذي يُباغتُني أو اللاشئ ، يعاودني التعب و البرد الموجِع و الإرتجاف ، و ينتابني نعاسٌ لأوّل مرّة منذ أن وجدتُ نفسي هنا و استسلم للنوم و الرّاحة !
***
أخرج ذاتَ يومٍ من المنزل و أقف على عتبة الباب و التفت لأغلقه ، في ذات اللحظة و قبل أن أهُمَّ على ذلك أسمعُ من ورائي صوت انغلاق الباب المقابل ، إنّه هو ، وكأنَّ فعله هو النصف الآخر لفعلي و المتمِّم له ، تماماً كما هو حُبّي ونصفي الآخر الذي يُتمّمني و يعلنني للعالم مراهقة أخرى ساذجة و واقعة في الحبّ ، هو ابن الجيران و ثيمةُ حبِّي و بعضٌ من لوحاتي ، أودُّ لو أخبره أنّني به مُعجبة ! حيّاني بابتسامة ودودة لطيفة ، وابتسامة عينيْه تذكِّرني بأبي و أخي و كُلّ من هو حميم ، مشينا على طول الزُّقاق نتبادل أطراف الحديث ، يتقدّمني بخُطُواتٍ في مشيه فيسابقُ قلبي خَطَواتي و يمشي بمحاذاته ، نبضُ قلبي مدوزنٌ على نبض قلبه هو ! سألني باهتمامٍ و فضول عن تجربة أوّل سنة في المرحلة الثانويّة ، وحدَّثني و نصحني عن ما ينتظرني وما يجب توقُّعه من هذه السنوات و المرحلة بوقارٍ و جديّة بدت لي هزليّة و مثيرة للضحك بعض الشئ ، فهو لا يكبرني سوى بعام مدرسيّ واحد ، لكنَّها و على أيَّةِ حال كانت نصائح مُحبَّبة و مُقدَّرة عنت لي الكثير ، منه هو بالتحديد ، ودَّعني وطلب منِّي أن أخبر أخي – صديقه المُقرَّب – أن يعاوده الاتّصال كما وعد ومضى في طريقه ، دقَّ قلبي و ترنَّح سَكَراً و حُبّا .
كان هذا كلَّ ما يكفيني و أطلبه من سيناريو حُبِّي العُذريّ له ، العنيف في الخفاء و اللامحسوس في الواقع ، أحاديثُ عشوائيّة متفرِّقة من يومٍ لآخر ، و رومانسيّة و رفاهيّة الوعي بوجوده بالجهة المُقابلة لمنزلنا ، رَغْمَ أنَّ رغبة مجنونة أن أصارحه حقيقة مشاعري و إعجابي كانت تجتاحُني من حينٍ لآخر ! لا أدري لما اخترتُه هو بالتحديد ، رُبّما تآلف أرواح أو ربّما كان الفتى الوسيم في حيِّنا أو رُبَّما ألبسته ثوب ما أريد و ما أحلم به فيمن أحبّ و أسطورة فارس أحلامي المثاليّ وتهيَّأ لي أنّ هذا هو فعل الحُب و الوقوع فيه ، لكنّه و على أيَّة حال كان إلهاماً و وحياً ولوناً آخر أرسُم به لوحاتي ، و بطريقةٍ ما أو بأخرى كان هذا بالنسبةِ لي مثاليّاً ومُشبِعاً وحُبّاً غير معطوب حدّ الكمال ! أصِل لبيت صديقتي و قبل أن أطرُق على الباب أنظر للسماء و أرى أزرق هادئ نظيف ممتدّ ، أعلمُ أنّ السّماء و العالم قد شهِد على قصّة حُبِّي الأوّل ، و سجّلها في التاريخ ضمن أخرياتٍ و قائمة لا تنتهي مُنذ بَدْء الكون ، لآخرين واقعينَ في الحُبّ أو وهم الحُبّ ، غارقين فيه بشكلٍ أو بآخر !
***
أشعةُ شّمسِ دافئة و حانية تعمُّني و تواسيني حين أصحو ، و اتفاءل ، لا أعلم لِماذا فأنا كما أنا ، لكنّني أرضى و أقنع بهذه السّعادة البسيطة و تُلهيني للحظاتٍ عن مصيري و نهايتي التي أضحت متوقّعة و مطوَّلة وساديّة مازوشيَّة بعض الشئ ، فهي تعلمُ تمامَ العلمِ أنَّ لا حيلة لي ، و أنَّ لا خلاص أو حملة إنقاذ فيما يبدو، و أنَّني لن أُقدم على الإنتحار بأن امتنع عن التنفُّس أو استسلم للغرق ، ماذا إذاً ؟ ما الذي تنتظره نهايتي اللعينة ؟ هل تريدُني أن أعترف وأُعلنَ هزيمتي و يأسي ؟
” حسناً إذا ! هل تسمعينني الآن ؟
هل صدى صوتي مُدوٍّ بما فيه الكفاية ؟ هل تسمعينه أينما أنتِ مُختبئة ؟ نعم أعترفُ أنّني و لا زلتُ حتّى هذه اللحظة أحلمُ بشئٍ أو شخصٍ ما ينجدُني و يغيثُني ، سفينة أو هيلوكوبتر أو ملاك عابر في السماء أو حتّى سفينة فضائيّة ! هل حرامٌ هذا أو عيب ؟ أتمُقُتين ذلك ؟ ليست سذاجة أو لا واقعيّة ألاّ أفقد الأمل .. وإنّما إنسانيّةُ في أصدقِ و أبسط صورها ! أعترفُ أيضاُ أنَّه عمليّاً وواقعيّاً ليست هنالك من دلالات و علامات تشيرُ إلى نهاية أُخرى سعيدة في عالمٍ مُوازٍ ، لذا و إن كان الموتُ هو كُلّ ما ينتظُرني فتعجّلي به ! الآن هي اللحظة الأولى و الأخيرة التي اشتهي فيها الموت !”
أصمتُ قليلاً لأستعيدَ أنفاسي ، وقد استنفذتُ روحي و جسدي في قولِ هذا و التفوُّه به على مسمعى ، كان كلاماً مهزوماً عارياً و سوداويّاً ، لكنَّه حرَّرني على الأقلّ ! أبكي من جديد و تسيلُ أنفي و دموعي على شفاهٍ مُشقَّقة جافّة ، أشعرُ بطاقتي تنفَد وتتلاشى و أنّني على وَشْك الإغماء من جديد و طائرٌ بحريّ ما يلوح في الأفق !
(2)
نزلتُ من الحافلة بعناءٍ و ببطء ، شاقّةً طريقي من الكَنَبة الأخيرة باتّجاه الباب ، في ممرّ ضيِّق لا يسعُني و حقيبة لابتوبي الضّخمة و كيس مُلطَّخ ببقع ألوان و طلاء مُعبّأ بفرش رسم و معاجين ألوان ، متأبِّطةً باليد الأخرى لوحة تشكيليّة متوسطة الحجم ، فأصطدمُ في طريق خروجي بالجالسين ، ضاربةً رجلُ على قفاه و أدوس على طرف فستان فتاة و أكاد أتعثّر على أحدهم ، فأعتذرُ من واحد و استميحُ آخر و يُربكني بكاءُ طفلٍ فيما يبدو أنّه امتصَّ توتُّر الجوّ و ترجّمه في زعيق وصراخ حادّ مستفزّ ، أكاد أجزِم لحظتها أنَّ كُلّ من في الحافلة تمنّى أن أغرُب عن و جههم ليواصلو طريقهم بعيداً عن ضوضائي و أشيائي !
أحطُّ على الأرض و تنطلق الحافلة بسرعة وتفرّ من ” الراكبة غير المُحبّبة” و أزيزها المُبتعد تدريجيّاُ يطرُقُ أذْني ، لونُ السّماء و حمرة الشّفق تغريني بأن أركض نحو بيتنا و الفناء وركني المُخصَّص فيه ، مرسمي و ورشتي ، أرسُم و أرسُم حدّ التعب ، دونّ حتّى أن استحمّ و استجمّ قليلاً و أخلع عنّي ثيابَ يومٍ طويل ، إلى أن أنام و يغلبني النُعاس و في يدي ريشةُ رسمي ، و إن مُتّ أكونُ قد مُتّ على ما أُحبّ ! أدخلُ المنزل على صوتِ آذانِ المغرب من مسجد حيِّنا القريب ، صوتُ الإمام مهيب و رزين يعُمّ ويشمل كُلّ بيت ، يُؤذِّن و يأُمّ المُصلّين و يقرأ القرآن و يؤدّي مراسم عقود زواج و كأنّها في عُقر دارنا و أنَّ كلّ هذه البيوت تقعُ في قلب المسجد ، كان يوماً قصيراً نسبيّأ لروتيني المُعتاد و إيقاع الأيّام و السَاعاتِ الطويلة المشحونة بالرسم و النقد و البدء من الصفر و النشوةِ و الإحباط و العمل بحُبّ في كليّة فنون جميلة ، ثلاث سنواتٍ و لا أزال أشحذُ روحَ المُحارب التي تتطلَّبُها الكليّة و حياتي عموماً كفنّان يستجدي الإلهام و يتعرَّى أمام حقيقته في اللوحة و الألوان كلَّ يومٍ !