في حُبّ .. مائة عام من العُزلة


رواية مائة عام من العزلة

لم أبدأ القراءة صغيرة ! ربَّما كان خيالي الطفولي يمدَّني بقصصٍ تغنيني عن ألف كتاب ! ربَّما لا ! ربَّما ضيّعت سنواتٍ و خيالاتٍ و قصص ، كانت من المؤكد ستجد مكاناً لها في عالمي الصغير .. غرفتي حيث وحدي كنت انسج قصصاً و ألعب الأدوار و أتقمَّص آخرين ، أجيدُ لغة العين و النظرات ، و أحيا قصص حبّ تراجيديّة و صداقات و هميّة . تلك كانت طفولتي ، عشرة أعوامٍ من العزلة أو أكثر بقليل ! في مراهقتي ، بدأت التفت لعوالم و أصوات و كلماتٍ في موسيقى و كتب و أفلام سينمائية ، و بدأتُ أسأم تبنّي نظرتي و عالمي الصغير لا غير لأرى و استوعب الأشياء و الأشخاص ! حينها ساقني القدر لثاني كتاب و رواية أقرأها على الإطلاق ( مائة عام من العزلة) ، وجدتُ الرواية أو هي وجدتني !

أحبُّ و أكثر ما أحبّ أنّها رواية عن كلّ شئ و لا شئ في ذات الوقت ! في السطح هي قصة قرية و عائلة و مجون لا غير ، لكن إن أنت سَبَرتَ أغوارها ، أو هي بروحانيّةٍ و إعجاز ما سبرت أغوارك ، حينها سترى كلّ شئ ! حياة كاملة إلهها و صانعها ماركيز ، تنكشف و تفصح عن نفسها في حضرتك ! و لا تملك إلا أن ترى فيها و في حقيقتها شكلاً أو آخر من حياتنا و ذواتنا و عالمنا. مرآة للدنيا و انقضاء العمر و الفناء. رواية لا تتبنّى رسالة أو قضية و لا تتصنع ! محض خيال جامح ! تتساءل ما وراء السّطور و الكلمات و الأجيال ما الذي سيحدث لو أطلقنا العنان لخيالنا و حرَّرناه ؟ أن لا تتوقَّف للحظة ليتسرَّب الخوف ما بين إلهامك و اللامحدود ! هي رواية تجعلني أؤمن حدّ الموت أنَّ خيالي قادر على أن يبحث و يبحث ، و أن يجد و يصنع ذاك الجنون الماركيزي الجميل أو غيره من ضروب العبقريّة ، التي تنتظر من يصافح يدها و يقبِّلها و يعانقها و يعلنها أمام العالم رفيقة و شريكة و توأم روح ! و يكون هذا الرابط المُقدّس رسول حب لمثلي و للكثيرين ، هكذا لا يتوقف الحبّ و الجنون إلى الأبد.

شجرة العائلة ! تلك التي كنتُ أعود إليها في آخر الكتاب بين حينٍ و آخر لأتذكَّر الأسماء و الجذور و الأجداد ، جعلتني أوقن أنَّ ما يبقى و ما يداعب ذاكرتنا بعد موت أحدهم أو نسيان تفاصيل وجهه أو إغلاق صفحات كتاب وركنه في أحد الرفوف ، هو شغف و هذيان ” خوسيه أركاديو بوينديا” الأب ، عناد ” أورسولا” الأم ، رحيل “خوسيه أركاديو” الابن مع الغجر بعصبة حمراء في رأسه ، و مثلث حُب “آمارانتا” و “ريبيكا” و “بيترو كريسبي” و هكذا ! تفاصيل و روح أحدهم تبقى ، لحظة واحدة و موقف فارق من عمر طويل تُبقي ذكرى أحدهم حيَّة للأبد ، حتّى لو تلاشت هويّة أحدهم و تداخلت الأجيال المتعاقبة فلم نعد نذكر الأصل من الفروع . هذه التفاصيل لها القدرة حتّى أن تحيل عالم و أشخاص من الخيال ليصيروا حقيقة لا شكّ فيها ، فلو عاد بك الزمان و انطلقت في رحلة للبحث ، ستجد قرية ماكندو و تقابل عائلة خوسيه أركاديو بوينديا و الغجر و تشهد أعوام الحروب و كّلَ ما كان.

أحبُّ أيضاً رومانسيّة و مَلَنخوليا أن أشهد ولادة قصّة و أشخاص ، تتوسطَّها و تتوجَها حياة حافلة بدت في غمرة اللحظة خالدة و عنيدة ” ماكوندو تلك القرية السعيدة ، حيث لا يزيد عمر أحد فيها عن ثلاثين سنة ، و لم يمت أحد فيها بعد !” ، و من ثمَّ في آخر العمر و القصص و المائة عام تراها تذبل و تتداعى شيئاً فشيئاً ! و كأنَّك تموت معهم و تزهد في الحياة و تفقد جمالك و تكتشف مغزى الحياة معهم ! كانت نهاية روحانيّة و شاعريّة و منعشة . أذكّر أنّي أعدتُ قراءتها مباشرة مرة ثانية لأنحتها في ذاكرتي ، و لم أشفى منها و لن أشفى منها ! لا أزال بين الحين و الآخر أعود للكتاب و أزرع أنفي بين الصفحات ! أتنفّس الكلمات و رائحة الطباعة و الذكريات و رائحة غرفتي و رائحتي بين هذا و ذاك ! أعلم أنّها عادة غريبة الأطوار ، لكنّها مُحبّبة و مألوفة ! هكذا أنا و هكذا عادتي مع كلّ كتاب أقع في حُبِّه ، و هذا كان أوّل كتاب و روايه أقع في حُبِّها !

أودّ الآن أن أكتب رسالة حُبي هذه بخطّ اليد ، و أن أضعها في زجاجة جميلة ذات لون زمُرُديّ هادئ و نقي و ألقي بها في عرض البحر ! لا أريد لها الغرق في قاعٍ ما ، و لا أعلم أين سترسو و إلى متى سيجرفها تيّار الماء ، لكنّي أريد لهذا الحُب أن يبقى ! رُبّما بعد عدّة أعوامٍ أو حتّى مائة من العزلة في البحر ، ستجد زجاجتي و رسالتي شخصاً ما و تحطُّ على قدميه في إحدى الشواطئ ذات صباح ، و يسوقه القدر أن يقرأ الرساله و يقرأ الرواية و إن كان بدافع الفضول ! و هكذا لا يتوقف الحبّ و الجنون إلى الأبد !

رأي واحد على “في حُبّ .. مائة عام من العُزلة

أضف تعليق